http://scmplayer.net

الخميس، 19 يناير 2017

الشاهد ..قصة قصيرة ..للشاعر الاديب / مصطفي دهور .

" الشاهد "
أنا رجل أبلغ من العمر أربعون سنة . قصير القامة . موظف مكتب بإحدى الشركات . أعشق الكلمات المتقاطعة ، بحيث تجدني بمقهى صغير بالحي الذي أسكن فيه ، وفي كل وقت ، أجهد ذهني من أجل ملء شبكة ما. لاأكلم أحدا ، ولاأرفع رأسي إلا ناذرا لأرى مايجري من حولي ؛ فعالمي خاص جدا ؛ أما زبناء المقهى ، وأغلبهم من أبناء حينا فإنهم يبذلون ما في وسعهم حتى لايفسدوا علي خلوتي.
ذات يوم ، بعدما جمعت أغراضي ، أعني الجريدة والهاتف ، قمت وأشرت إلى نادل المقهى الذي توجه نحوي وهو يبتسم ؛ كان لطيفا جدا . بينما كنت أدفع له الحساب ، جاء رجلان ووقفا بجانبي ؛ مد له الأول ورقة من فئة مائة درهم ، والثاني ورقة من فئة عشرين درهم.
وأنا أتأهب لأ غادر المقهى ، أثارت انتباهي هذه الجملة :
- ماهذا ؟ لقد أعطيتك ورقة من فئة مائة درهم ، وأنت ترجع لي باقي ورقة من فئة عشرين درهم !
 نظرت خلسة إلى الرجل وأنا أقول في نفسي " لا ! لم يعطه سوى ورقة من فئة عشرين درهما ! لقد رأيت كل شيء ! "
ابتسم النادل وقال له :
- عفوا ، سيدي ! لم تعطني سوى ورقة من فئة عشرين درهما ، وأنا جاد فيما أقول !
ثم التفت إلي : أليس كذلك ، السيد حميد ؟
 ياللهول ! لست أدري ماذا أقول ، فأنا أكره مثل هذه المواقف ! نظر إلي الرجل بعمق ، نظرة تحمل نوعا من التهديد - شيء طبيعي، لم يكن يريد أن أشهد لصالح النادل - ثم قال :
- أسرع ياهذا ، فالوقت يداهمني.
أجاب النادل مؤكدا ، والإبتسامة تعلو دائما ثغره بأنه لم يعطه سوى ورقة من فئة عشرين درهما. أثار هذا الرد أعصاب الرجل فقال ، وهو يستشيط غضبا : لقد أعطيتك ورقة من فئة مائة درهم ، وإن لم ترجع لي الباقي في الحال ، فسوف . .
- فسوف ماذا ؟ لن تقدر على فعل أي شيء !
 - هكذا إذن ! تسرقني ، ثم تتحداني ؛ سوف نرى !
ماإن انتهى من تهديده له ، حتى انقض عليه . رمى النادل الصينية التي كانت بيده على  الأرض ، ثم استقبل خصمه بشجاعة منقطعة النظير !
في أقل من عشر ثواني ، تبادل الرجلان اللكم والضرب بالأيادي والأرجل والرؤوس . . تدخل رجال كثيرون من أجل أن يفرقاهما ، لكن دون جدوى !
كان شجارا قويا وعنيفا للغاية ، بحيث كان الدم يلطخ كل مكان ، الأرض والباب والنوافذ . .
غادرت المقهى على الفور وعدت إلى منزلي ؛ فمثل هذه المشاهد تقلق راحتي وتزعج عاداتي ، أنا الإنسان المسالم ، والذي أشعر بنوع من التقزز تجاه كل مايندرج في إطار مايسمى بالعنف.
بعد مرور حوالي عشرين دقيقة ، سمعنا ، زوجتي وأنا أحدا يدق وبشدة على الباب . انحنيت بسرعة من الشباك: ياإلاهي، ماذا أرى ؟ حشد من الأطفال، بعض الرجال، وشرطيين؛ وكان يوجد كذلك السيد الحسين، صاحب المقهى التي نشب فيها الشجار. أشار إلي أحد الشرطيين، فنزلت؛ بعدها قال لي بأني مطالب بالإدلاء بشهادتي، نزولا عند رغبة النادل الذي فقد، وكما أخبروني بعضا من أسنانه، وكانت عينه اليمنى مهشمة. يجب إذن أن أحضر إلى مركز الشرطة في تمام الساعة الثانية زوالا؛ كان ذلك مكتوبا على ورقة الإستدعاء التي سلمني إياها أحد الشرطيين، بعد أن كتب عليها إسمي بأحرف كبيرة. ياإلاهي، هذا موقف من المواقف التي لاأحبها، والتي أفعل دائما مافي وسعي لأتفاداها، لكني أجد نفسي الآن مورطا فيها ! مالعمل إذن ؟ لقد أصبحت مضطرا لأدلي بشهادتي في مركز الشرطة !
مهلا ! لنفرض أني امتنعت على أن أدلي بهذه الشهادة ، لست أظن أنهم سيلقون بي في السجن من أجل هذا !
سيقول قائل : ماالسبب الذي يمنعك من الذهاب إلى مركز الشرطة والإدلاء بهذه الشهادة ؟ ولم كل هذا الخوف ؟ سأرد قائلا : آه لو كنت تعلم ياأخي ! إنه ليس الخوف،بل شيء أكبر من ذلك بكثير؛ أتفهمني ؟ لاأحد سيسصدق أني سأذهب إلى مركز الشرطة من أجل الإدلاء بشهادتي ، نزولا عند رغبة نادل المقهى ، لاأحد ! لا السيد المدير الذي سأتلفن له بعد قليل لأخبره عن سبب غيابي، ولا زملائي في الشغل ! إني أعرفهم جيدا ، سيقولون أشياء كثيرة تضر بسمعتي في الشركة ، وربما عجلت بفصلي عن العمل ، الشيء الغير المستبعد ! فاستدعاءي إلى مركز الشرطة فرصة من ذهب لهم ليطلقوا العنان لمخيلتهم ، فينوعون ، وبدون وخز ضمير الروايات ! إنهم يألفون الحكايات ويصدقونها ! ماذا عساهم أن يقولوا ! أشياء كثيرة لن تخطر لأحد على البال ! منهم من سيقول ، وهذا أكيد بأنني متورط في قضية مخدرات ، ولربما كنت من أكبر موزعي الحشيش ، أو أي مخدر آخر ! ومنهم من سيقول ، وهذا وارد بأني إرهابي متخف في ثوب رجل عاقل ، معروف عنه في الشركة التي نعمل بها بأنه يكره العنف ! هناك آخرون لن يدخروا جهدا لكي ينعتوني بأني مجرم خطير ، أو مهرب للسلاح ، أو من أولئك الذين يقومون بالإعتداء الجنسي على الأطفال ! وهناك أخطر من هذا، فمنهم من سيلصق بي تهمة أني رئيس منظمة سرية تريد أن تقلب الأوضاع بالبلاد ! وهذه أشياء ليست غريبة عليهم ! في السنة الماضية ، اتفقوا كلهم وقدموا عريضة استنكارية للسيد المدير العام تحمل توقيعاتهم ، منددين بالأخلاق الفاسدة لأحد الأشخاص الذي كان يعمل بالشركة منذ أكثر من عشر سنين ( والذي لم يكونوا يطيقون وجوده بينهم ) ، مما تسبب في فصله رسميا عن العمل ؛ اتهموه بأنه كان يغازل النساء الشريفات اللواتي كن يعملن بنفس الشركة التي نعمل بها ، ويسبب لهن كثيرا من الإحراج ، هو المسكين الذي كان يعرف بأخلاقه العالية ، ونزاهته وجديته في العمل ! أرأيت أخي؟ أأدركت مصدر تخوفي وقلقي واضطراب نفسي ؟ إذا كان من يغازل النساء قد فصل على الفور عن العمل ، فما بالك بي وقد ألصقت بي بعض من التهم السالفة الذكر ؟
في مركز الشرطة ، قلت ماسمعت ورأيت بصدق وأمانة. كنت فخورا بنفسي ! فهذا الرجل يستحق السجن فعلا لما فعل بالنادل المسكين !
مر عشرون يوما ، وإذا بي أتلقى استدعاء من المحكمة ؛ كان المطلوب مني أن أدلي بشهادتي ، أو أعيد باختصار ماسبق وقلته في مركز الشرطة.
بعد يومين من تسليمي الإستدعاء ، حضرت إلى المحكمة ؛ كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف صباحا . انتظرت حوالي ثلاثة أرباع الساعة لينادي علي القاضي بعدها ويطلب مني أن أرفع يدي اليمنى وأقسم بالله العظيم أن أقول الحق ، ولا شيء غير الحق ففعلت . بعدما انتهيت من الإدلاء بشهادتي، طلب مني القاضي بهدوء، وهو يتفحص وجهي أن أعود إلى مكاني. نادى بعد ذلك، وتباعا على ثلاثة أشخاص وطلب منهم أن يأدوا أليمين قبل الإدلاء بشهادتهم ففعلوا؛ قالوا كلهم نفس الكلام، والذي يفهم من خلاله بأن هذا الرجل الذي يتهمه النادل بما نسب إليه لم يضع أبدا رجليه في هذه المقهى التي سبق ونشب فيها الشجار، قبل عشرين يوما مضت ؛ ثم أضافوا هم الثلاثة ، مؤكدين أن هذا الرجل كان يوجد في ذلك اليوم بالمستشفى حيث كانت تجرى له عملية جراحية. كانت الحجة قوية ودامغة، فالمحامي الذي وكله ذلك الشخص للدفاع عنه قدم بدوره شهادة طبية تثبت صحة ماجاء به هؤلاء الشهود،الجديرون بالثقة ! شهادة سلمت له من طرف الطبيب الذي أشرف على العملية " الوهمية " التي قام بها للرجل.
لم أملك إلا أن أقول لنفسي ، وقد اعتراني الذهول " هكذا إذن ! " مر خمسة عشر يوما، فعدنا إلى المحكمة. هاهو القاضي ينطق بالحكم بعد المداولة :
" حميد بن محمد الضريف ! صدر في حقك الحكم التالي : ثلات سنوات سجن، وثلاثون ألف درهم كغرامة من أجل شهادة زور ! رفعت الجلسة. "
المصطفى دهور. أستاذ متقاعد . مادة اللغة الفرنسية. وكاتب روائي بالفرنسية. الدار البيضاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق